بسم الله الرحمان الرحيم
في الثامنة عشر ربيعا ، سارت * آمال * وعنفوان الشباب يلاحقها ، تارة تسبقه بأفكارها ، بأحلامها ، بطيشها مع صديقة الأيام * منى * ، وتارة تفكر ، تتئد، تتراجع أنا خائفة ....على بعد خطوات هناك تتراءى الثانوية ، ضجيج ، ضحكات متعالية ، أساتذة ، طلبة ، عمال الكل في زحمة التوافد ...إنه يوم القلق ، يوم الحصيلة لسنوات خلت .
دخلت * آمال * والبطاقات ترصد ، وبعض أعوان الشرطة يلتقط الضجيج بأعين الرضا ، وفي تمدد غير طبيعي تصحو ذاكرة البعض منهم على ماض ِ ِمضت معه أحلام الشباب ، دخلت آمال بقدٌها المترنح وبلمسات خفيفة تضبط خمارها ، والتساؤلات تداعب ُ قلبها النابض بحركات غير عادية :أتعادُ أسئلة العام اوالذي قبله؟ وهل هي صعبة أم سهلة ؟..أحس أني فقدت كل شئ...زال كل شئ ، إلهي رحماك...ويزداد الخفقان ، وتمتد أسناها إلى قضم أظافرها ، إنها ساعات حرجة ،كلٌ ُ طالبِ ِ رافق بطاقته الملصقة على الطاولة ، وانهمك في ملء الإستمارة الموزعة ِ، وساد الصمت نادرا ما يتعالى صوت في أدبِ ِ : لم أفهم ؟ تعالى يا أستاذ .
كانت *آمال* قد ملأت الإستمارة على عجالة ثم سرحت إلى البعيد ، إلى السنة الماضيةِ ، كان الاستعداد مكتملا َ َ، والرغبة جامحة ، والتطلع إلى عالم الجامعة يُراقِص ُ الإحساس ، ويستيقظ والدي تقول آمال على غير عادته بصوت مرتفع كنت ساعتها أستعد للباكالوريا التي لم يبق لها إلا أياما معدودة ، أحمد، أحمدأسرع والدتك في خطر ،أسرع وأحضر السيارة ، تعاونا على حمل أمي المريضة بالربو ، وإلى قسم الإستعجالات مباشرة ، حزن عميق احتضن خوفنا ،
ووجوم لم أعهده خيم علينا كان مآلنا الله لم نفتر بالدعاء إلا حين يتضاعف بكاء أختي الصغيرة .
كنا جميعا حيرى ،نظرات أمي لا تفارقنا ، كانت حادة وكأن الوداع يلازمها ، بوجه مزرق ،وأعين جاحظة ،منظر رهيب وهي تصارع الإختناق وضيق التنفس
بأيدِ ِ النجدة...النجدة
ساعات تمرٌ ُحتى طلع النهار ونحن ننتظر، فاجأتنا رنٌات الهاتف بجرس اهتزت له المسامع والقلوب ، وقفزنا مرة واحدة لاستلام المكالمة ويا ليتنا لم نسرع ......
ليتنا لم نسمع : ...الله أكبر إنٌا لله وإنٌاإليه راجعون .
السلام عليكم أبنائي كيف أحوالكم ؟ إستفقتُ على إثرها و عدت للإمتحان ، كان القادم ممثل عن مديرية التربية والوفد المرافق له ، يحمل ُ ظرفا كبيرا ، إشرأبت الأعناق إليه ، وسادت تمتمات غريبة داخل القسم ، وأرادت *آمال * أن تسافر ثانية بذاكرتها إلى الماضي لكن استعجلها الممثلُ : أنت ِ بنيتي تعالي ، وأنت
يا ولدي تفضل أشرفنا على مسك الظرف وفتحه أمام زملائنا وأيدينا ترتعش لكن أحسست بنشوة فاترة ، وبعدها شعرت باستقرار نفسي ٌ غريب وعدت إلى مكاني في شوق إلى ما وراء هذه الأوراق التي أدار الأستاذ ظهرها إلينا ،وبين الحين والآخر يسرق ُبصرهُ مضمونها حتى يأذَِنَ الجرس بالبدإ .
وُزِعتْ حبات الحلوى علينا كنت أمقتها،لا حلاوة فيها ، لن أكلها هذا العام ، لن أتجرع مرارتك ،أفهمتِ ؟ ...هكذا كانت تقول* آمال * .
وفي عفويةِ ِ عابرة ِ ِدق الجرسُ ، ووُزعتِ أوراق الأسئلة، تصلبت الأبصارُ عليها ،ساد الصمتُ ،التزم الأساتذة مناطق الحراسة بكل هدوء ، ولم يبق على الساحةِ سوى صوت القلوب في دقات متفاوتة ، وشفاه متمتمة ، وصرير أقلام تحركها الأنامل في تواثب متتال ِ ِ.
تجاوبت * آمال *مع الأسئلة ....كم بدت لي سهلة تقول ، ورحتُ في تسارع
أبُطٌنُ الورقة بمعلومات وأنا في غاية التمكن من صحتها ، حبستُ نفسي على الإلتفات ،لا يمنة ولا يسرى ، وأنا أحلٌلُ النص استوقفتني :
-الأم مدرسة إذا أعددتها *** أعددتَ شعبا طيب الأعراق
أُصيبتُ حينها بدوار إلى ضربات قلبِ ِ سريعة ولم استفق إلا وأنا ممدة على سرير
ماهذا أين أنا ؟..أين الورقة؟ ضاعت الباكالوريا ، ماهذا يا رب؟ ...
لا تخافي يا آمال إنه مجرد إغماء وزال بسبب التعب وطالما أجبت نصف الإجابة
لن يكون إقصاء فأحسستُ بشيئ من الإنفراج تقول آمال .
عادت إلى المنزل تجرٌ ُ أذيالَ الخيبةِ ، وشريط الماضي يلازمها وهي تحاول رميه في سلة النسيان ، وبوجه مكفهرِ تستقبل إخوتها ، وتحكي لهم الحكاية في مرارةِ اليائسين ، ساعتها يدخل الأب مزودا بسُعالِِ ِ متكرر وحمى حُمرتها تجلت على صحن وجهه المستدير ، وتنسى آمال الإحباط ، وتنسى الوهن ، أبي ،أبي
لاشيئ بنيتي مجرد زكام بسيط ، بالمناسبة كيف حالك مع الإمتحان اليوم ؟ أخبريني ..وبشفقةِ ِ مصطنعة ترد : الحمد لله يا أبي ، ربي يوفقنا ، إن شاء الله
بنيتي ، ثم يدخل إلى غرفته ليستريح قليلا .
كانت *آمال * تكابد ما حدث لها بصبر غير معهود وتبني الأمل من جديد ، وتقول
: أمي لن أخذل أمنيتك ، سأكمل ، وسأنجح بإذن الله .
جاء الصباح الموالي ، وجاءت صديقتها *منى * ، كيف الحال اليوم ؟ الحمد لله
ترد آمال ، وبهمة ِ ِ عالية سلما الأمر لله وواصلا السير على درجة كبيرة من الإستقرار النفسي والتطلع لغد أفضل ، حتى فجأة مرت سيارة في عجالة خارقة
جرفت ولدا كان يحمل خبزا ، صرخت آمال ، صرخت منى ، يا إلهي ماذا نفعل
هل معك الهاتف النقال يا منى ؟ نعم أعطيني إياه؟ ألو أحمد ، نعم ، أسرع نحن
في طريقنا إلى الثانوية ، حادث، نعم حادث...ماذا وقع؟ ألو...انقطعت المكالمة .
كان الوقت يمر بسرعة ، وباب الثانوية قَرُبَ على الغلق ، وأحمد تأخر ، آمال ومنى تنتظران ، الناس تجمهروا :لمن هذا الولد ؟ مسكين ، أمات ؟ غوغاء وغوغاء تشق الشارع ..لم يأت أحمد..الوقت هيا بنا .
كان أحمد قد عمل مخالفة في الطريق ، ضبطه الشرطي وأمره بالمرور على مركز الشرطة لإجراء المحضر ، رفض أحمد لأنه في عجلة من أمره وجرت بينهما مشاداة ألزمته الحجز لمدة نصف يوم مع غرامة ماليةِ ِ.
آمال اعتورها خوف ، توتر ، ثم تشرع في قراءةالأسئلة والإجابة ، إنها في المستوى .
انتهت أيام الباكالوريا ، ولم ينته القلق ، إلا أن آمال تحاول أن تتناسى وهي في زحمة الشغل المنزلي ..
وفي أحد الليالي عاد الأب كعادته متأخرا وقد تعود الجلوس مع جاره *سي الطاهر* الوقت صيفا والحرارة لا تطاق ، اختناق ، ضجيج الأبناء الأفضل البقاءإلى ساعات متأخرة في فضاء أرحب وحكايات عن الماضي.
رنٌَ َ جرس الهاتف، أبت آمال أن تجيب ...وفي كبرياء اليائسين استسلمت لنومها
غير مبالية بالرد ، اتجه الأب إلى السماعة وعرف أنها *منى* ، اقترب من آمال
وبلطف ناداها : آمال ، آمال المكالمة لك ، إنها من *منى*..أوه منى دعيني قلت لايكلمني أحد..أرجوك دعيني أنام ،منى: أوجاءك النوم ؟ غريب أمرك ، إن الباكالوريا قد..باي قالت آمال وأغلقت عاودت الكرة *منى* ألو ، ألو ، آمال : ماذا؟ لقد نجحت ِ والله نجحتِ ، نجحت مستحيل نجحت وتستفيق من النوم فتجدها الساعة الواحدة ليلا .
ذهب النوم عنها وبدأت تفكر وهاجس الباكالوريا يُراودها وإذا بها تسمع الزغاريد
فأخذت تجري من هنا ، إلى هنالك ، لقد خرجت النتائج ، وراحت في بكاء متواصل وضاع الأمل ...ويرن الهاتف النقال حقيقة إنه زميلها عماد لقد نجحت يا آمال وبمعدل جيد قبل قليل على الموبيليس .
__________________