مع طلوع شمس كلِّ يوم وغروبها، نَتَّخذُ عشرات القرارات
منها الصغيرة: ماذا سنأكلعلى الغداء؟
ومنها الكبيرة: هل أشتري هذا البيت المعروض عليَّ؟
منها ما نتخذه فيالحال: أيّ طريق سأسْلُكه إلى عملي؟
ومنها ما نَتَرَوَّى في اتِّخاذه ونستشير: هلأترك عملي بسبب مضايقات المدير؟
ومنها، ومنها... وهكذا - كما ترى - طيف واسِع، لاحُدُود له منَ القرارات
اليوميَّة.
لكن دعونا نَتَّفق: أنَّ هناك خمسة قرارات فيغاية الأهمية
هذه القراراتُ هي التي سترسم ملامح مستقبلكَ، وتُشَكِّل حياتكَ.
خمسةقرارات هي المسؤولة عن هذا التبايُن الكبيرِ بين الناس مِن حولنا
خمسة قرارات يجبأن نعطيَها انتباهًا أكبر، وحِرصًا أشد, وللأَسَفِ يترُكها كثيرٌ منَ الناسللحَظِّ، أوِ الصُّدفَة، أو لغيرهم، أو يَتَّخذونها خَبْط عَشْواء.
القرار الأول: الالْتِزام والاستقامة
إنَّ قرار التَّدَيُّن والالتزام بِشَرْع الله العظيمِمنَ القرارات الأهم في حياتنا، إنَّ الدِّين يَتَخَلَّل في جوانب حياتنا وشخصيتنا،ويُشَكِّل طريقةً جديدةً في رؤية الأشياء مِن حولنا والحُكم عليها، يمتلكالمُلتَزمون بشرع الله والمستقيمون عليه دليلاً واضحًا للحكم على ما يستقبلهم مِنحوادث، وما يعترضهم مِن أحداث، أمَّا مَن حُرِم هذه النِّعمة، وطاشَ قرارُه، فتجدهمُتَخَبِّطًا، لا يستقرُّ قرارُه، ولا يستكينُ قلبُه.
هناك فرقٌ كبيرٌ بين مَن ذاقحلاوة الإيمان، ورَوْعة الهِداية، وبين مَن عاش في ظُلُمات الشَّكِّ والتَّرَدُّد, تَتَنَازَعه الأهواء والمَصَالح, وتنتهي حياته،
وهو ما زال يسأل أين الطريق؟
القرارالثاني : ماذا سأفعل بعد المرحلة الثانوية؟
عندما يقترب طلاَّب المرحلة الثانوية مننهايتها, تراهُم يعيشون حالةً منَ التَّوَهَان والتَّشَوُّش حول حياتهم بعدالثانوية, فهم يعرفون تمامًا أنَّ التَّخَصُّص الجامعي الذي سيختارونه سيرسم ملامحمستقبلهم.
ولقد سمعتُ قصصًا مُضحِكة مُبكِية في الطريقة التي يختار بها شبابناتَخَصُّصاتهم الجامعيَّة:
فهذا أحمد الذي كان عازمًا على دراسة اللغة الإنجليزية؛لِحُبِّه لها، وفي طريقِه إلى الجامِعة قابَلَ صديقًا قديمًا لم يَرهُ منذ مُدَّة،وبعد السلام والسؤال عنِ الأحوال أَخْبَرَهُ عنِ الكليَّة التي ينوي التسجيل فيها،فَرَدَّ عليه صديقُه: "يا شيخ، الإنجليزي وجع رأس، تعالَ معنا، تَرَ كلَّ الشبابذاهبين إدارة، ترى هناك الوضع جميلاً، تعال معنا وانبسط"، وبالفعل سَجَّل في كليةالإدارة.
وإن أَنْسَ، فلن أَنْسَى تلك الكلمات المُتَأَلِّمَة، التي سَمِعْتها مِنصديقي العزيز سعد المهندس المدني، الذي يَتَّقِد حَمَاسًا ونشاطًا، قال لي يومًا: "تعرف يا ياسر، دخلتُ كلية الهندسة إرضاءً لوالدي، وليتني لم أفعل".
سعد هذا - أيهاالقارئ الكريم - في منتصف الخمسينات من عمره, وأنا أعلم أنَّ لديه مواهب عديدةًخارج الهندسة, وهو يَتَجَرَّع كل يوم مرارة العمل في مجالٍ لا يحبُّه ولا يُناسبه
إنني أعتقد أن التَّوَهان العام في هذه المسألة، والفوضى العارمة التي تسود بينشبابنا في اختيار سبيل حياتهم بعد انتهائهم منَ المرحلة الثانوية, أعتقد أنها تشاركفي حالة التَّخَلُّف والتَّأَخُّر الذي تعيشه أمتنا الإسلاميَّة.
ولا حول ولا قوةإلا بالله.
القرار الثالث : مَن أُصاحِب؟
عند بلوغ مرحلة المُراهقة, يبدأ الشابُّالصغير بِفِقدان الاهتمام بأسرته وتعليماتها وطريقة حياتها, ويتجه منحى جديدًامختلفًا، يبدأ الشابُّ في هذه المرحلة بإعطاء كامل الاهتمام للأصدقاء والرُّفقاء،وكم كان لهذا التَّغَيُّر مِن تأثير إيجابيٍّ أو سلبيٍّ على حياة الشابِّ.
وهذا ماحدث مع جابر؛ إذ تُحَدِّثني والدته وهي تبكي، فتقول: "كان شابًّا رائعًا خَدُومًاأفتخر به، وخلال دراسته في المدرسة الثانوية تعرَّف على أصدقاء سَيِّئِين،غَيَّرُوا حياته بالكامل"
كنتُ أشعر بدمعاتها الساخِنة تكوي قلبي، فأنا أعرف ابنهاالذي يقضي وقته الآن بين السجون ومستشفيات الإدمان.
هل نلوم الأهل؟
هل نلومالشابَّ؟
لاأدري، فالقضية مُعَقَّدة للغاية, لكنها أساسيَّة وتستحق كامل الاهتماموالعناية, ولقد رأيتُ منَ الآباء الرائعين ممن أَدْهَشُوني بِحِرْصِهم
فمنهم مَنيَتَعَرَّف على عائلةٍ جديدةٍ؛ حتى يغريَ ابنه بالتَّعَرُّف على شابٍّ صالحٍ من تلكالعائلة
ومنهم مُستَعِد لتغيير بلد إقامته وعمله في سبيل إبعاد ابنه عن صُحبةسيئة
هذه الأمثلة الرائعة قليلة؛ لكنها تَنُمُّ عن وَعْيٍ كبيرٍ.
هذا الأمر لاينطبق على الصِّغار فقط، فحتى نحن الكبار, تترك الصُّحبةُ فينا بشكلٍ خفيٍّ أثرًاكبيرًا، قد لا يكون الأمر جليًّا كما في مرحلة المراهقة، لكنه موجودٌ ومُؤَثِّر
انـــتــبــــه
فمهما كنتَ ناضجًا، فالصداقة تُغَيِّر فيكَ أشياءَ كثيرةً، إن الجلوس معيائسٍ، أو محبَط, أو مستهترٍ، أو ضعيف الهمَّة،أو قليل الاهتمام - ينقُل إليكحالته النفسيَّة، وموقفه في الحياة شيئًا فشيئًا، وما هي سوى أشهرٍ قليلة حتى تجدنفسكَ تغرق في المستنقع الذي جَرَّك إليه.
القرار الرابع : مَن أتزوج؟
منَ القراراتالخطيرة في حياتكَ هي اختيار الزوجة - أو الزوج - الذي ستربط بها - أو به - وتعيشانسويًّا عمرًا طويلاً، وتشتركان في حياتكما بالكامل.
وتَتَكَرَّر المأساة؛ إذنَتَّخذ قرارَ الزواج بعشوائيَّة وغياب للوعي، لقد راجعتُ كثيرًا منَ الرسائلوالاستشارات، التي تَرِد عليَّ كل يوم على بريدي الإلكتروني؛ لأَجِد أنَّ قرارالزواج منَ القرارات الخطيرة التي تُغَيِّر حياتنا، ولا نلقي لها بالاً.
فلدى كثيرمنَ الرجال غطرسة ممقوتة: "لا يهم مَن أتزوج، أنا مَن سأُشَكِّلها على كيفي"
أواستهتار وقلَّة وعي: "لا يهم مَن أتزوج، صدقني كلُّ النساء سواء"
أو استعجال: "لاأدري، أريد أن أتزوجَ وحسب".
أما معشر النساء؛ فالأمر لديهن أكثر أهمية، فكم رأيتُوسمعتُ عن فتاة مُتَوَقِّدة ونشيطة، تَوَرَّطَت مع زوجٍ سيء حَطَّمَها بكل ما لهذهالكلمة مِن معنى، لم يطفئ شُعلة الحماس وحب الحياة لديها فحسب, بل جَرَّعَهاالأَلَم والمَرَارة, وحَوَّلَها إلى كائنٍ نصف حيٍّ يضمد جراحه، كنتُ أبحث عن سببهذه المأساة, وتكون الإجابة في معظم الحالات استهتارفي اتخاذ قرار الموافقة علىهذا الزوج عندما تَقَدَّمَ خاطبًا.
إننا كثيرًا ما نَتَّخذ قرارَ قضاء حياتنا معشخص آخر بناءً على مقدمات ومبررات خاطِئة؛ ولذا يَتَعَرَّض اختيارنا لتَشَوُّهكبيرٍ، ومنها مثلاً: الجمال, العائلة،إرضاء الوالدة، جنسيَّة أجنبيَّة،خفة الدم،وغير ذلك كثيرًا...
وننسى تمامًا الحديث النبوي الكريم الذي نحفَظُه جميعًا: "فاظْفَر بذات الدِّين تَرِبَتْ يداكَ"
لكن انتبه
فليس المقصود هنا بذاتالدِّين الملتزمة بالعبادات والحلال والحرام فحسب, بلِ المقصود هنا الدِّين بمعناهالشامِل، بما في ذلك طِيب الأخلاق، والأدب، وحُسن المُعَامَلة، وغير ذلك ...
مما يمنحالحياة طعمًا، ما أَرْوَعَه!
القرار الخامس : قراراتنا اليومية
كلُّ القراراتالسابقة قراراتٌ كبيرة، ويسبقها عادةً تجهيزات وإعدادات كثيرة؛ لكننا يجب ألا نغفلعن أمرٍ مهمٍ ، فالقرارات الصغيرة - والتي نتخذها كل يوم - تعبِّر عن اختياراتناوطريقة رؤيتنا لأنفسنا واحترامنا لها، وهي تلعب دورًا كبيرًا في رسم شخصياتنا، ونمطحياتنا ومستقبلنا.
تذكر أنَّ النجاح هو نتيجة لقرارات صغيرة صائِبة، نتَّخذها كليوم
وفي المقابل الفشل هو نتيجة طبيعيَّة لِقَرارات خاطِئة نَتَّخِذها كل يوم
تعلَّم كيف تقول:
لا
فقد حَمَت هذه الكلمة الصغيرة الناجحينَ من مشتتات كثيرة،تعترض حياتهم كل يوم؛ لتصرفهم عن وجهتهم، وتحقيق أهدافهم.
ختامًا: لو تَأَمَّلتَمعي في معظم هذه القرارات، التي تَحَدَّثتُ عنها، لوجدتَ أننا نَتَّخذها في أوقات مُبَكرة من حياتنا، في عمر نحتاج فيه إلى المسانَدة والتوجيه
وللأسف يغيب الآباءعن حياة أبنائهم، وهم يواجِهون هذه القرارات، فيطيش حكمهم، ويدفعون مقابل ذلك ثمنًاغاليًا.